مصر الكبرى

09:33 مساءً EET

الإسلام والدولة المدنية: تجربة السياق الأوروبي

تتعدد هذه الأيام الندوات والنقاشات حول إشكالات الدين والدولة في السياق العربي الجديد، في مشهد تطرح فيه أسئلة جوهرية حول طبيعة "الأنظمة الإسلامية" التي أوصلها "الربيع العربي" للسلطة وعلاقتها بباقي مكونات الحقل السياسي وآفاق التحول الديمقراطي في تلك البلدان التي تعيش أزمات المسار الانتقالي.

وبديهي للعيان أن هذه الإشكالات تتمحور حول ضرب من الجدل المتصاعد حول هوية الدولة (دولة دينية أو مدنية تعاقدية) وما يقتضيه حسم هذا الإشكال من نتائج عديدة في البنيات الدستورية والنظم القانونية التفصيلية.
والملاحظ هنا أن الأحزاب الإسلامية الحاكمة أظهرت عجزاً واضحاً عن بلورة مقاربة فكرية سياسية في المسألة الدينية – السياسية المطروحة، مكتفية (كما هو جلي من كتابات وتصريحات قياداتها كالغنوشي في تونس والعريان في مصر) بإعلان الدولة المدنية الديمقراطية ضمن منظور مرجعية الشريعة الناظمة.وهكذا بقيت موضوعات كثيرة معلقة من قبيل: منزلة الأحكام الشرعية التفصيلية المتصلة بالشأن العام: هل هي قوانين وتشريعات ملزمة في حرفيتها، أم هي تنزيلات ظرفية لقيم ثابتة ومقاصد أزلية؟
ففي الوقت الذي يظهر الإسلاميون حساً برجماتياً في التكيف مع الأوضاع التي ورثوها من الأنظمة السابقة (إلى حد اتهامهم من خصومهم بالتحالف مع الأجهزة الأمنية القمعية والأوساط المالية الفاسدة طلباً للنجاة)، فأنهم يقدمون خطاباً مزدوجاً مليئاً بالنقائض في هذا الموضوع المحوري المتعلق بسؤال الشرعية. فإذا كانوا يميلون للاكتفاء بالنص على المرجعية الدستورية للإسلام ديناً للدولة كما هو المألوف في كل الدساتير العربية (إرضاء لشركائهم السياسيين)، إلا أنهم وقد بنوا كامل خطابهم الإيديولوجي على مقولة "تطبيق الشريعة" يرسلون إشارات صريحة أحياناً وخافتة أحياناً أخرى للتنظيمات السلفية المنافسة تفيد وحدة الهدف والمقصد على اختلاف الأسلوب والطريقة.
وعلى الرغم من الاختلاف الواضح بين المسارين الغربي والعربي –الإسلامي في تسيير المسألة الدينية – السياسية من حيث الخلفيات العقدية والثقافية والسياقات المجتمعية والتاريخية، فإن المجتمعات العربية تعيش فعلاً حواراً شبيهاً بالنقاش الذي عرفته المجتمعات الأوروبية في القرنين الثامن عاشر والتاسع عشر حول معايير وقيم العيش المشترك المنظم من حيث العلاقة المعقدة بين الدين والدولة.
وإذا كان هذا النقاش تم في السياق الغربي عبر لحظتين متتاليتين ومتمايزتين :لحظة التنوير التي تمحورت حول إشكالية التسامح ولحظة العلمنة التي تمحورت حول مبدأ الفصل بين المؤسستين الكهنوتية والسياسية، فإن الإشكالين يتداخلان حالياً في السياق العربي الإسلامي، ولا يمكن اختزالهما في الجدل الدستوري المحتدم حول مرجعيات التأسيس السياسي.
وقبل أي مناقشة جدية للمعضلة العربية الراهنة، يتعين تقديم صورة دقيقة عن مسار الإشكالية واستتباعاتها في حقلها الأصلي، أي المجتمع الأوروبي الحديث.
وعلى كثرة من يتجرأ في أيامنا على التعرض لهذا الموضوع الرئيسي، يذهل المرء من الفقر المثير في الكتابات الفكرية العربية الرائجة حول المسألة الدينية السياسية في المجتمعات الغربية الحديثة، على الرغم من تنوع وأهمية الأعمال التاريخية والفلسفية والاجتماعية التي تقذف بها المطابع يومياً باللغات العالمية الأساسية.
فأغلب الباحثين العرب – على اختلاف مشاربهم واختصاصاتهم– لا يتجاوزن في تناولهم للمسألة الأطروحة الفيبرية الشهيرة حول العلاقة التلازمية بين مسار الخروج من النزعة السحرية للعالم واتجاه العقلنة المجتمعية والبيروقراطية المفضية إلى الفصل الجذري بين دائرة القناعات الجوهرية المطلقة(الدين) ونظام تدبير الشأن العام.
وليست هذه الأطروحة التي تبلورت في الحقل الاجتماعي وليس في الدراسات التاريخية سوى إحدى ثلاث مقاربات أخرى في تفسير مسار العلمنة في المجتمعات الغربية لا يمكن تجاهلها في أي معالجة جدية لمسألة اعتبار العلمنة تحقيقاً موضوعياً لإمكانات واتجاهات ذاتية في التقليد المسيحي لاهوتياً واجتماعياً وليست بالتالي قطيعة مع هذا التقليد، واعتبار العلمنة مجرد نقل للمضامين اللاهوتية إلى الحقل السياسي الحديث، ولا يخفى ما للأطروحتين من ارتباطات في النتيجة النهائية.
وما نريد أن نبينه هو أن الأبحاث الأخيرة في مسار الانتقال من العصور الوسيطة إلى الحداثة السياسية قدمت إضافات نوعية للموضوع، استناداً إلى الأطروحة التي بلورها المؤرخ والمفكر القانوني الألماني – الأميركي "آرنست كانتوريتش" في كتابه المهم "جسد الملك" (صدر 1957) وإلى أطروحة "كارل شميت" حول اللاهوت السياسي التي تشهد في أيامنا قراءات متجددة على يد الفيلسوفين الإيطاليين "جورجيو اغامبن" و"توني نجري"(فضلاً عن أعمال جاك دريدا الأخيرة حول السيادة والقانون).
إن أهم ما بينه "كانتوريتش" هو أن المجتمعات الأوروبية الوسيطة قد عرفت تدريجياً ثلاثة نماذج من النظام السياسي ما بين القرن العاشر والسادس عشر: نموذج الملكية المسيحية المركزية (الحاكم المقدس على شكل المسيح بوجهيه الطبيعي والإلهي)، نموذج الملكية المتمحورة حول القانون والعدالة في مرحلة شهدت نقل المضامين اللاهوتية إلى السجل القانوني لصالح الإمبراطور أولاً ثم البلدان الإقليمية المعلمنة (الحاكم بصفته تجسيداً للقانون)، النموذج الحديث للدولة العلمانية التي قامت فيها دائرة مدنية مستقلة ضمن كيانات قومية مكتملة امتصت الرمزية المقدسة للكنيسة.
وما يبينه "كارل شميت" هو مظاهر وتجليات هذا النقل من الحقل اللاهوتي للحقل السياسي، في تأكيد واضح على خيوط التداخل الجلية بين علمنة القطيعة وعلمنة الوصل. إنما نريد أن نخلص إليه هو أن تأسيس الدولة المدنية في السياق العربي الراهن، وإن كان لا يمكن أن يتم خارج صدام فكري وأيديولوجي حول إشكالات الشرعية والمرجعية العقدية والقيمية، إلا أن التجربة الغربية بينت لنا أن الانتقال إلى عصور الحداثة السياسية لم يأخذ- على عكس الصورة التي ولدتها هزة الثورة الفرنسية – شكل قطيعة راديكالية وفتنة مدمرة، بل أخذ شكل تطور طبيعي من مجموعات ملية مغلقة إلى كيانات سياسية مكتملة البناء المؤسسي. وما ننساه دائماً هو أن الأفكار تنتهي دوماً للتأقلم مع اكراهات ومقتضيات السياق، وإنْ كان المنظور التأويلي البعدي يأتي دوماً في نهاية المطاف.

التعليقات