مصر الكبرى

11:48 صباحًا EET

دولة الإخوان العميقة!

 
برز مصطلح "الدولة العميقة" في الآونة الأخيرة بعد نجاح ثورات عربية فيما يُسمى بالربيع العربي. والدولة العميقة يعنون بها التحالفات النافذة والمناهضة للوضع الجديد، وهو بالنسبة لهم النظام الديمقراطي المتكوّن على أنقاض النظام البائد.

وتتكون هذه التحالفات من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة المخابرات، والقوات المسلحة والأمن والقضاء والتعليم، بل يمتد ذلك إلى مستويات أصغر حيث صغار الموظفين وصغار المنتفعين من أوضاع الأنظمة البائدة الفاسدة. فكل هؤلاء يشكلون دولة باطنة، لها مصالحها التي لا تتناغم مع توجهات الوضع الجديد. ولاء هذه التحالفات يظلّ محتفظا بصلته بالوضع القديم. ويصعب جداً القضاء على الدولة العميقة لأنّها ليست مجرد شخصيات نافذة تُغيّر أو وزارات تُشكّل، وليس تنظيما مرتبطا ببعضه يمكن تتبعه، بل خطورته تكمن في كونه تنظيما ولائيا، لا يعرف بعضهم بعضا، وإنّما يربطهم جميعا ما تكوّن بينهم من قواسم مشتركة ومصالح مرتبطة ببعضها البعض. وهذا يجعل الإصلاح والتوجيه من قبل الدولة الظاهرة صعبا أو مستحيلاً لأنّ أوامرها وتوجيهاتها لا تجد آذانا صاغية من قبل أفراد الدولة العميقة. هذا ما فعلته الأنظمة الاستبدادية في بلدانها خلال عدة عقود ستجعل الإصلاح عملية صعبة وقاسية. دول الخليج لها حكاية ثانية. لندخل في أعماق تلك الدول، فماذا سنرى؟ سنرى وبدون مجهر أنّ هناك دولاً داخل دول. سنجد عددا من الدول العميقة، دول كوّنتها مجموعة أخرى معاكسة لتلك الّتي حكمت في مصر وتونس وليبيا وغيرها من دول الربيع العربي. أعني هنا الإخوان المسلمين. جاء الإخوان منذ عدة عقود إلى السعودية وغيرها من دول الخليج، واستُقبلوا بحفاوة وتقدير، وشغلوا مناصب ووظائف مهمة وحساسة، خاصة في التعليم العام والتعليم الجامعي ووزارات التربية. ولا أعلم إن كان هذا خيارا منهم وهو خيار ذكي، أو هو ما أملته ظروف الدول الناشئة التي كانت بحاجة لسد النقص في مجال التعليم بالذات وهو ما ناسب طبيعة تخصصات كثير من قيادات وأعضاء الإخوان ورموزهم الفكريين في ذلك الوقت. وعبر سنوات طويلة وفي غفلة من حكومات الخليج تغوّل الإخوان في شكل لا يمكن أن تشعر به الدولة أو يمكن تتبعه بسهولة. أصبح لدينا دولة داخل دولة. فالموالون للمنهج الإخواني وقسيمه السروري يشغلون مناصب ووظائف أكثر من عدد الحصى، وهو أمر لا بدّ أن يشكّل مصدر قلق لكل من يعرف الحقد والكراهية الذي يملأ صدور الإخوان والسرورية بالذات تجاه حكومات دول الخليج مهما أظهروا أنّ ولاءهم لأوطانهم ودينهم. فالإخوان والسرورية للأسف الشديد يمارسون أنواعا من الكذب والتقيّة والتلوّن أشدّ من تلك التي يمارسها الرافضة لكن بشكل ينذر من يبصره ويكشفه. كوّن الإخوان لمنهجهم واستراتيجياتهم الفكرية والسياسية تنظيما ولائيا ينتشر ويتكاثر في كلّ مفاصل الدّولة. حتّى الجهات العسكريّة أصبح فيها من يؤدي قسما لفظيا بالولاء للدولة والملك، لكنه يقسم بالولاء للمنهج الإخواني والسروري بفعله. لقد كوّن الإخوان دولتهم العميقة، وساندهم في السعودية بالذات السرورية. فهم الذين مرّروا فكر الإخوان ومنهجهم بعد أن كان المنهج السلفي الذي يدين بالولاء لولي الأمر بالسمع والطاعة ولزوم الجماعة وعدم الخروج عليه سدا منيعا وعقبة في وجه المد الفكري الإخواني. لكن الإخوان بذكائهم وظّفوا بعض الأفراد المتحوّلين الذين مُسخت بواطنهم إخوانية وبقيت ظواهرهم سلفية فخُدع بهم جمهور الشباب المقبل على الله في المملكة، فتكون بذلك تنظيم ضخم، وتشكلت بذلك "دولة الإخوان الكبرى" عميقة متجذرة في كلّ عروق الدولة. يبدو أنّهم ينشطون هذه الأيّام بشكل ملحوظ متسارع يريدون فيما يبدو استغلال موسم الحصاد العربي لقطف ثمرة عملهم لعدة عقود، وذلك بتهيئة الشعوب الخليجية وخاصة السعودية للثورة على حكوماتها دراية منهم بأنّ هذه الدول تفتقر إلى أيّة أحزاب أو تنظيمات يمكن أن تقاومهم كما حصل في مصر وتونس وليبيا وسوريا كمثال. وأمر آخر هو طمعهم في الأموال الخليجية الّتي يطمحون من خلال الاستيلاء عليها إلى بناء دولتهم الكبرى ودمج دول الربيع العربي أو مساعدتها على الأقل ضدّ من يقاومها. وقد فشلوا مرتين سابقا في تهييج الشارع ضدّ الدولة في المملكة لأنّ آثار المنهج السلفي بحمد الله وبركاته ما زالت حاضرة في الوجدان الشعبي السعودي. ولهذا جنحوا الآن إلى بعث الملفات القلقة؛ ملف المعتقلين الذين يروجون أنّهم أكثر من ثلاثين ألفا، كذبا وزروا، وهم معتقلون لم يؤخذوا في ظروف اعتيادية بل في ظروف أمنية قلقة، وأكثرهم عليهم شبهات. ورغم أنّنا لا نوافق على ظلم أحد، إلاّ أنّ ملف المعتقلين بالنسبة للإخوان والسرورية ملف مهم، إذ يطالبون بمحاكمة المعتقلين. وعندما يحاكمون وتصدر بحقهم العقوبات يشنعون على القضاء والأحكام. بمعنى أنّهم لا يرضيهم من الدولة شيء. فالمعتقلون ورقة ضغط وليست مجرد قضية إنسانية. ملف الأحوال المعيشية والإسكان والبطالة قضية أخرى. فهذا ملف واقعي وحقيقي تحاول الدولة إصلاحه لكن الفساد والمفسدين في كل مكان. والدولة ليس لها مصلحة في إفقار مواطنيها لكن شأنها شأن أيّ دولة تختل فيها الإدارة الجيدة للموارد. لا نوافق أبداً على استمرار الوضع كما هو ونطالب بسد حاجات الناس، لكن هذا الملف بالنسبة للإخوان ورقة ضغط وتهييج وليس قضية إنسانية، بدليل أنّ المؤسسات والمنظمات التي أدارها الإخوان- كهيئة الإغاثة والندوة وبعض الجامعات- شهدت أبشع حالات الفساد من سرقة ونهب وإهمال، وهذا والله شيء وقفت عليه بنفسي. ومع ذلك لا يتحدثون في هذا ولا يعلنونه. أمّا أخطاء صغار موظفي الدولة فانظر إلى صراخهم وعويلهم في كلّ منبر إعلامي يصلون إليه خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي التي استطاعوا من خلالها توسيع وتعميق دولتهم النائمة في أحشاء الدولة الظاهرة من خلال الشحن العاطفي والتهييج والخداع وتصوير الواقع وتوجيه الحوادث نحو بوصلة واحدة وهي إسقاط الحكومات. إنّ الوضع يزداد سوءا والبركان يوشك على الانفجار إن لم تسارع حكوماتنا إلى معالجة الوضع وذلك بتفكيك أوصال الدولة العميقة من خلال تتبع كلّ من يحمل فكر الإخوان والسرورية بالإبعاد عن المناطق الحيوية سواء أكانت وظائف ومناصب قيادية أو حساسة، في الجيش والشرطة، وفي الجامعات بالذات حيث يريدون السيطرة على الحركة الطلابية وتهيئتها للاستجابة لأيّة حركة ثورية. وقد افتعلوا عدة حوادث لتجربة مدى استعداد المجاميع الطلابية للتوجيه والتنظيم- كما حدث في أبها- ولكنهم فشلوا حين رأوا غوغائية وهمجية المشاركين كون أكثرهم لم يعِ حقيقة المراد وكون بعضهم كان له مطالب حقيقية لما نفذت عاد إلى وضعه الطبيعي. وأكثر ما ينشطون في جامعة المؤسس وجامعة الملك سعود. أمّا التعليم العام، فالمعلمون شريحة كبيرة منهم ولاؤها للمنهج وليس للدولة. والشارع العام أصبح يستمع لهم ولأبواقهم ويتفاعل مع طروحاتهم، ووالله الذي لا إله غيره إنّي لا أبغض الإخوان لمجرد اختلاف فكري أو فقهي أو سياسي، وإنّما كونهم أصحاب فتن وقلاقل، ومنهجهم يقوم على المفاصلة مع الحكومات مهما كانت قريبة من الإسلام، بل حكومتنا بحمد الله أكثر دينا واستقامة على شرع الله من الإخوان وقياداتهم التي عرف عن بعضها الانحراف العقدي والسلوكي، وهذا مشهور لا يُنكره إلا معاند، ومع هذا يرون المفاصلة والانفصال عن الحكومات لأنّهم يرون في أنفسهم وجماعتهم الدولة الإسلامية الحقيقية. وكل من يعايش الواقع داخل الجامعات والمنظمات والمؤسسات التعليمية وغيرها يعرف تماما أنّ غالبية المنتمين إليها يأتمرون فكريا وتنظيميا للتنظيم الإخواني عبر رموزه وقياداته التي توجّه باسم الدين والمنهج.. فمثلاً تجد موظفا في منصب عينته الدولة يضع قيودا وشروطا لعمله من عنده: فتجد كاتب عدل مثلاً لا يوثق وكالات تقرها الدولة بينما يراها هو حراما أو تخالف توجّه التنظيم.. ومثله في القضاء.. ومثله في التعليم، تجده يعلّم منهجا غير الذي أقرته وزارة التربية.. أو يرجّح أقوالاً أو يطرق مسائل لم يذكرها المنهج. وكذلك في الجامعات، يحدث هذا وبشكل أوسع. ويعملون كذلك على تقريب وتعيين الموالين لهم مهما كان ضعف مستواهم أو ضعف دينهم، وإبعاد كل من لا يتفق معهم ولو كان من أتقى النّاس أو أكثرهم مهنيّة. وأسهل ما عليهم ظلم المخالفين لهم من الإسلاميين، دعك من غيرهم ممن يعتبرونهم كفاراً أو سلاطين أو موالين للسلطان. وقد حدثني من أثق به في هيئة الأمر بالمعروف أنّه كان يجتمع بهم شيخ مشهور ويجزل لهم الأموال، وكان يتحدث إليهم من موقع توجيهي، محاولاً كسب ولائهم حتى أصبح توجيه الأعضاء ليس من قبل رئيسهم بل من قبل هذا الشيخ. وهذا الأمر يحدث الآن بشكل كبير، خاصة في الأجهزة الّتي يتولاّها مخالف لهم يعرف خبث منهجهم ولا ينخدع له. هكذا تدور الأمور في كثير من الجهات. فالمدير أو الرئيس من قبل الدولة إن لم يكن على هواهم تولوا هم الإدارة عبر تكوين الولاء الفكري والمنهجي للأعضاء في الجهة المقصود السيطرة عليها. ومن هنا أنادي مرة أخرى بتتبّع مفاصل هذه الدولة العميقة وتفكيكها، عبر عملية تطهير شاملة ومنهجية مرحلية، تبدأ بإبعاد الكبار عن مناصبهم بإعفاء أو تقاعد، أو نقل، وإسكات الأبواق الإعلامية رغبة أو رهبة.. فأمن البلاد والعباد مقدّم على أيّة تنظيرات فكريّة. ثم تأتي مهمة تتبع الصف الثاني بالإعفاء أو النقل إلى وظائف أخرى أو مواقع وظيفية ثانية. والنقل من أكثر ما يتعبهم ويربك خططهم. أمّا من ثبت عليه الكلام في الدولة علنا وتهييج الشارع ضدّها فيُعامل بالشرع ويُحال إلى القضاء. وما يحصل في الإمارات الآن من اعتقالات وسحب جنسيات قد يبدو في ظاهر الأمر ظلماً. لكنّ الإمارات فيما يبدو بدأت تشعر بخطورة الأمر ووجود الدولة العميقة، فبدأت بالتحرك ضدّهم. لا أحب الظّلم ولا أدعو إلى ظلم أحد منهم، وإنّما أدعو إلى التعامل معهم وفق شريعة محكمة وقانون منضبط، يكفل حقوقهم ويمنعهم من ظلم أنفسهم وظلمنا معهم بإحداث القلاقل وإشعال الفتن. أنا أقرّ بوجود المظالم، وبوجود التقصير في الدولة من أكبر رأس فيها إلى أصغره. لم يدّع أحد الكمال والعصمة، لكن الإصلاح لا يكون باتباع مناهج مخالفة للشرع والقانون، وإنّما باتباع السنة، واعتبار الدولة كالأب الذي إن قصّر ذكّرناه وأعنّاه، وإن أبى وأصر صبرنا عليه ودعونا له، وإنّما شبّهتها بالأب بياناً أنّه لا انفكاك للمواطن الحقيقي عن حكومته المسلمة مهما قصّرت فولاؤه لها يعينها على الخير ولا يشاركها الشّر ويدعو لها ويصبر عليها إن حافت وجارت. وسنّة الله في أرضه أنّ الإصلاح يحتاج إلى وقت وتدرج وهدوء ومطالبة بالحسنى، والمؤمن الحق والمواطن الصالح ينصح ويبدي الحكمة ويعرض الإصلاح فإن قُبل منه حمد الله وإن لم يُقبل منه حمد الله لأنّ ذمّته قد برئت. كما أنّني مقتنع تمام الاقتناع أنّ الإصلاح في المملكة وفي دول الخليج كلّها لا يمكن أن يمرّ إلاّ من خلال اعتبار العائلات الحاكمة جزءاً ثابتا في العملية الإصلاحية وشريكة فيها، فهذه الدول ليست كمصر وتونس وغيرها. هناك أمر يغفل عنه البعض وهو أنّ العائلات الحاكمة في دول الخليج سابقة للدولة الحديثة، بل هي الّتي كوّنتها سواء على أساس ديني كما في المملكة، أو على غير ذلك كما في غيرها. أمّا في مصر وتونس وليبيا فالأنظمة المستبدة جاءت لاحقة للدولة الحديثة أي أنّها ليست مكونا أساسيا فيها. والسنة التاريخية تقول: إنّ ما كان جزءا من تكوين الدولة فإنّ ذهابه وإضعافه يؤدي إلى تفككها وانقسامها. لهذا كان الإصلاح في المملكة مثلاً مستحيلاً إذا أغفل ثبات مكونين فيها: الدين، والأسرة الحاكمة. فإضعاف أحد هذين المكونين يعني التفكك لا محالة، فعلى كل من يقرأ مقالي هذا أن يمعن التفكير جيدا قبل أن يصغي إلى تنظير الإخوانيين أو الإصلاحيين ونحوهم الذين يرون الإصلاح يمر عبر تنحية الأسر الحاكمة في الخليج أو تحييدها. وكذلك الدين والمنهج السلفي في المملكة عنصر قوة وتماسك، فإضعافه بالمعاصي كما يفعل الفساق وأصحاب رؤوس الأموال المنحرفين، أو بالبدع والتساهل فيها كما يفعل الإخوان ونحوهم من السروريين، كلّ ذلك سيؤدي إلى تفكك الدولة بعد أن تنمو فيها الطوائف من جديد بعصبياتها وحقوقها المزعومة التي هي الشرك والخرافة وليست حقوقا أصيلة سواء كانت إنسانية أم شرعية. أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا بلادنا وأمننا وأن يوفق ولاة أمرنا لمراضيه، وأن يعينهم على تحكيم شريعة الله ونشر العدل والقضاء على الفتن وأسبابها وقمع الفساد والمفسدين، والله الموفق.
 

التعليقات