مصر الكبرى

05:25 مساءً EET

ديمقراطية ما بعد الثورة: لعبة التوازنات والتعايش المفروض

لم يكن الاستبداد في التاريخ المعاصر للمنطقة العربية حدثا عارضا فمنذ استقلال غالب هذه الدول لم تعرف سوى الدكتاتورية وحكم الطاغية الأوحد ومن ورائه حزبه الواحد نموذجا للحكم مع بعض الاستثناءات التي مثلت لحظات أشبه بالاستراحة (في السودان بعد سقوط النميري، الجزائر بعد انتفاضة 1989، تونس بعد الانقلاب على بورقيبة) ليعود بعدها نظام الحكم المغلق الاستبدادي أكثر قسوة.

وإذا كانت بعض الدول لازالت ترزح تحت طائلة حكم الاستبداد والأنظمة الاتوقراطية المطلقة فإن دولا أخرى شهدت ثورات شعبية دشنت ما يُعرف بعصر الربيع العربي جعلها تمر إلى نظام ديمقراطي تعددي حر (لا يخلو من بعض الفوضى) وهو ما يجعل السؤال عن ديمقراطية ما بعد الثورات أمرا مشروعا؟ عن طبيعتها ومرتكزاتها وما الذي يمكن أن تفضي إليه ؟بداية لا توجد صيغة أو نموذج نهائي لما يمكن تسميته بالنظام الديمقراطي الأمثل وإنما نحن أمام اجتهادات مختلفة لشعوب كثيرة راكمت تجارب سياسية ومجتمعية متنوعة وهذا ما يعني ضرورة أن ما يمكن تسميته ديمقراطية وبعيدا عن هوس المصطلحات هو كل نظام ناتج عن اختيار شعبي حر ويضمن جملة من الحقوق ويحدد الواجبات التي ترتبط بمفهوم المواطنة بمعنى يضمن الحريات ويحمي التعددية ويسمح بحق الاختلاف ضمن ضوابط تكون محل توافق بين الأطراف المجتمعية المختلفة، ولأن الاختيارات السياسية الكبرى لا تنشأ هكذا بضربة لازب فإن ديمقراطية ما بعد الثورات العربية كانت نتاجا لجملة من الصراعات والتجاذبات والتنازعات التي لازالت ملازمة للوضع الناشئ إلى حد اللحظة. فالأطياف السياسية المكونة للمشهد السياسي في دول ما بعد الثورات بعضها لا يؤمن بالديمقراطية أصلا (وهنا لا يتعلق الأمر بالإسلاميين فحسب كما قد يتبادر إلى الذهن وإنما أيضا بباقي القوى الليبرالية منها واليسارية) فكل هذه القوى بعلمانييها وإسلامييها لم تراكم تجربة كافية في العمل السياسي الديمقراطي بسبب نشأتها في ظل أنظمة استبدادية وفيها من ظل يستند إلى خطاب إيديولوجي مغلق يرفض الآخر ويعتمد الإقصاء وإذا أضفنا إليها بقايا الأنظمة المنهارة نجد أنفسنا أمام مشهد لديمقراطية ناشئة يغلب عليها منطق التجربة والخطأ، وبالنظر إلى الوضع الحالي الغير محدد الملامح (بوصفه مرحلة انتقالية تشهد تجاذبات وصراعات حول النظام الجديد الذي يتشكل ويتم صياغة عقد اجتماعي مناسب له من خلال كتابة دساتير أكثر ديمقراطية) يمكن القول أن ديمقراطيات ما بعد الثورة تتسم بما يلي :أولا: مثلما لم تكن الثورة ناجمة عن توافقات أو اتفاقات مسبقة وكانت في بدئها حراكا شعبيا نابعا من عمق المعاناة، لم تكن ديمقراطية ما بعد الثورة نتاجا لعقد اجتماعي تم التوافق عليه بين القوى السياسية والاجتماعية المختلفة وإنما هي ديمقراطية الأمر الواقع القائم على التوازنات.ثانيا: هي لحظة انتقالية بكل ما يحمله اللفظ من معنى من حيث غياب قوة الإرغام لدى الدولة وانتشار الرخاوة الأمنية مع وضع يميل أحيانا إلى الفوضى (تسجيل أكثر من 25 ألف اعتصام من اجل مطالب فئوية في تونس ما بعد الثورة على سبيل المثال(.ثالثا: هذه الديمقراطية الناشئة تقوم على لعبة التوازنات (مما يجعلها اقرب إلى المشي على الحبل المعلق) بحيث أن أي اختلال للتوازن قد يفضي إلى السقوط في كنف الفوضى أو في أحضان الاستبداد.رابعا: إذا استبعدنا الأحزاب ذات المنحى الطفيلي والتي تعتاش على موائد التناقضات السياسية بين القوى الكبرى فإن الأحزاب المركزية والفاعلة هي في حالة تنازع اقــرب إلى التناحر حيث أن رغبة الإلغاء كامنة لدى كل طرف طمعا في إقصاء الخصوم والاستئثار بكرسي السلطة دون أن يعني هذا أن بالإمكان الوصول إلى حالة الإلغاء هذه.خامسا: إن حالة التعايش بين الأحزاب إنما هي حالة قائمة على الإكراه إلى الحد الذي يمكن معه توصيفها بالهدنة التي فرضتها مقتضيات التبادل المصلحي بين السياسيين أكثر مما هي تعبير عن اختيار نهائي ومحدد ففي تونس كما في تونس نجد بعض الأحزاب العلمانية مثلا لازالت غير قابلة لفكرة وصول الإسلاميين للحكم واستيعاب منطق الصندوق الانتخابي الذي افرز خصوما لا يجد هؤلاء في أنفسهم حرجا من إعلان العداء لهم إلى حد التحالف مع فلول الأنظمة التي قامت الثورات ضدها وكل هذا نكاية بخصومهم الذين هم في الحكم .سادسا: في ظل ثورات مصر وتونس استعادت قوى الأنظمة السابقة أنفاسها واستطاعت إلى حد ما الإفلات من المحاسبة بل وإعادة هيكلة ذاتها من اجل العودة إلى السلطة (احمد شفيق في مصر، الباجي قايد السبسي في تونس على سبيل المثال(.أخيرا: في بعض الأحيان ينزاح المشهد السياسي في دول ما بعد الثورات إلى حالة أشبه بالعبثية السياسية بالنظر إلى سرعة تبدل التحالفات وتغيير المواقع الحزبية بما يكشف عن مشهد بصدد التشكل وأنه بعيد عن الاكتمال فلم يعرف كثير من المواطنين بله جانب من النخب مشاربهم السياسية بعد، وهو أمر تجلى في كثرة الأحزاب التي تتوالد بشكل خلوي (عن طريق الانقسام) وأيضا في الانتقالات من حزب لآخر بصورة تذكرنا بماركاتو اللاعبين التي يعرفها دوري الكرة، فأحزاب تنشأ وأخرى تفنى وكتل نيابية تغير ولاءاتها إلى أحزاب أخرى غير تلك التي اُنتخبت على قوائمها وهو أمر يدل على مدى ضعف الانتماء وتذبذب الولاءات وغياب الوعي السياسي .ورغم كل ما يبدو من مشهد مضطرب وغامض وما يعرفه من صراعات وتنازعات فإن هذا كله يظل دليلا على حيوية المجتمع السياسي وسرعة تشكله وسيره بخطوات واضحة نحو الوضع الديمقراطي النهائي، وينبغي أن ندرك أن الديمقراطيات جميعا إنما قامت على نمط من الاكراهات وعلى صراعات سلمية بين القوى المختلفة لتستقر في النهاية على نمط حكم قائم على توازي السلط وتقابلها ومراقبتها لبعضها البعض، بالطبع كل هذا مشروط بتجنب العنف سبيلا لحل النزاعات، فديمقراطية ما بعد الثورات العربية قائمة على تعايش مفروض وتوازن قوى واضح سيدفع كل الأطراف إلى الإقرار بحق الجميع في التواجد وتضمين هذا الحق الغير قابل للإلغاء في الدساتير المقبلة .
*سمير حمدي:  كاتب من تونس

التعليقات