مصر الكبرى

10:06 صباحًا EET

لم يكن البنا فقيهاً

«العود الأبدي» من نيتشه إلى كمال الهلباوي
بعد استقالة مدوية من عضوية جماعة «الإخوان المسلمين» في آذار (مارس) الماضي، قدم الناطق السابق باسم «الجماعة» في أوروبا والرئيس المؤسس للرابطة الإسلامية في بريطانيا، كمال الهلباوي، خدمات جليلة للجماعة: سعى جاهداً لتبرئتها من تهمة تصدير الثورات، وملأ وسائط الإعلام المرئي والمقروء بتأكيده وسطية الجماعة، ودافع عن «التنظيم» الدولي لـ «لإخوان» المسلمين زاعماً أنه مجرد مجموعة اتصال تنسيقية، أو مدرسة للشعوب، رافضاً كل اتهام للتنظيم (إن جاز أنه تنظيم) بالتآمر والانقلابية.

لكن ما أريد الوقوف أمامه هو دعوة الهلباوي، المتكررة، إلى الاعتراف بمؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» حسن البنا، كمرجعية لا غنى عنها لمسلم معاصر يريد أن يقارب دينه ودنياه مقاربة المسلم الحق. وكأن الجماعة المتهمة بالتخطيط للاستحواذ على سلطات الدولة، في أقطار عربية عدة، تريد أيضاً أن تسد الأفق الثقافي بمرجعية يختارها، نيابة عنها، رجل ذو قدرات إعلامية لا تنكر، وقد يزيد من صدقيته أنه يبدو مستقلاً عن الجماعة. ولكن الدعوة لحسن البنا كمرجعية دينية تنطوي على أكثر من إشكالية، أخطرها ما يستدل عليه من عنوان هذه المقالة: فكرة العود الأبدي عند السلفيين، ومنهم كمال الهلباوي ومرشده حسن البنا، على رغم قربها من مبدأ التناسخ الذي يرفضه الإسلام.
فكرة العود الأبدي تقول إن كل ما عرفه الوجود من كائنات حية يعود بعد أن يفنى، ليبدأ حياة جديدة، تمر بأحوال من ازدهار، فذبول، ففناء، ثم تعود للظهور مجدداً، في دورات لا تنتهي. ويبلغ النوع الإنساني ذروة كل دورة بظهور الإنسان الأعلى superman الذي لا بد أن يتراجع نازلاً، من الذروة إلى الحضيض حتى تنتهي الدورة، تمهيداً لدورة تالية. ووفقاً لهذه الفكرة فمن كان أسلافه من العظماء فقدره أن يكون عظيماً. وإن كان عجز الخلف، في حاضرهم الحي، عن تجسيد عظمة السلف، في ماضيهم المندثر، خطيئة، فتطلع الأعراق المنحطة إلى مجد لم يكن لأسلافهم، خطيئة أكبر. وهذا هو أساس نظام الطوائف المذموم في الهند.
وعلى رغم أن فكرة العود الأبدي قديمة فهي ترتبط، في العصور الحديثة، بالفيلسوف فريدريك نيتشه. لكن الشرق العربي ابتلي برجال يجسدون، في ما يقولون وما يفعلون، إيماناً بفكرة العود الأبدي، ربما كان أولهم نابليون بونابرت الذي أعطاه انتصاره في إيطاليا مبرراً لوهم أنه قيصر جديد، ثم وجد نفسه، في مطلع مغامرته التعيسة في مصر والشام، على شاطئ العجمي في الإسكندرية، فاعتبر أنه الإسكندر بعث حياً. وأوضح المؤرخ هنري لورانز، في محاضرة له في القاهرة، في أيار (مايو) 1997 كيف بلغ جنون العظمة بالجنرال المغامر مبلغه فشبه نفسه بالنبي العربي، قائلاً «إنه مثلي». وأياً كان دافع بونابرت إلى هذه المقارنة فهي مرفوضة عند كل مسلم.
فماذا عن حسن البنا الذي يدعونا الهلباوي إلى الاعتراف به إماماً للعصر؟
في كتاب «الإخوان المسلمون: أحداث صنعت التاريخ» أن خلافاً نشب بين أعوان حسن البنا فطلب منهم أن يرجعوا إليه في خلافاتهم، بأن قرأ عليهم قوله تعالى: «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم». ويقول من عرفوا البنا إنه كان يدعو صهره باسم «أخو خديجة»، وكان يشير إلى أحد المقربين منه، وكان رجلاً وسيم الطلعة ومتهماً بمراودة بعض نساء الجماعة عن أنفسهن، بأنه «يوسف هذه الجماعة».
إذاً، فالرجل يرى في جماعته تجسيداً حالّاً لكل الصالحين، في كل العصور السالفة، ويرى نفسه صورة حالّة من أصلح الصالحين في كل العصور. هكذا، رأى الجنرال الفرنسي نفسه، بعد أن لبس عمامة بيضاء وتبنى خطاباً إسلاموياً ظن أنه يخفي به حقيقة مطامعه عن المصريين، وسبق بذلك حسن البنا إلى خطأ تمويه الغايات السياسية بخطاب ديني، وإلى خطيئة تشبيه نفسه بالنبي العربي، في تطبيق فج لفكرة العود الأبدي. وقد يكون عذر بونابرت أنه عاش قبل نيتشه فلم يقرأ ما كتب ولم يدرك خطورة فلسفته.
فهل قرأ البنا نيتشه أو قرأه أحد مساعديه ولخص له فلسفته، وبخاصة ما يتصل منها بفكرة العود الأبدي؟ قد يكون الرد على هذا السؤال سؤالاً معاكساً: ولماذا يقرأ البنا نيتشه تحديداً؟ لسببين منهما أن البنا داعية لفلسفة القوة. لكن الأهم أن نيتشه قدم الأساس النظري الذي قامت عليه النازية في القرن العشرين. وأنشأ البنا وأدار، بالتعاون مع علي ماهر باشا والشيخ أمين الحسيني، مكتباً للدعاية لدول المحور، إبان حربها على العالم الديموقراطي. والدعاية للمحور وثيقة العلاقة بتردي أوضاع العالمين العربي والإسلامي، ليوم الناس هذا.
والحقيقة أن البنا لم يكن معنياً بالفكر والفقه مقدار عنايته بالحركة والتنظيم والدعاية. وعندما سئل لماذا لا يؤلف كتاباً رد بأن المكتبات عامرة وليست في حاجة لجديد، وأنه مشغول بما هو أهم: مشغول بصناعة الرجال. وكل ما خلفه البنا من آثار «فكرية» يروج لها كثيرون هذه الأيام، لا يعدو أن يكون ملاحظات وخواطر وانطباعات وذكريات. ولهذا فالقدرات الهائلة التي تمتع بها البنا كقائد ينظم الرجال، ويحكم سيطرته على قلوبهم وعقولهم، أصبحت – في غياب تأصيل نظري وفقهي متكامل وراسخ – مصدر خطر كبير، خصوصاً بعد إنشاء التنظيم السري. إن جماعة سرية مسلحة محكمة التنظيم، من دون نظرية سياسية وفقهية، هي جهاز للقتل.
وانتهت حياة البنا في عاصفة الغضب والنار التي هبت بعد أن قتل أعوانه رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا. وما قول المرشد عن قتلة الرئيس وهم ممن يأتمرون بأمره إنهم «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين»، إلا تخلياً عن شباب كان هو من غرر بهم حين زين لهم العمل السري العنفي. فهل قتل برصاص زملائهم؟ برصاص الشرطة؟ برصاص حزب الرئيس القتيل، الحزب السعدي؟ قال لي ماهر والي، شقيق نائب رئيس الوزراء الأسبق يوسف والي، إن والده – وكان سكرتير مجلس الشيوخ – تلقى اتصالاً هاتفياً من أحد أقطاب الحزب السعدي، قبيل مقتل البنا، قال فيه: «نحن يا باشا أهل الصعيد، نثأر لقتلانا».
أياً كانت الحقيقة فقد مات الرجل وعلى رأسه دم النقراشي باشا، ودم الخازندار بك، ودماء المواطنين المصريين في «حارة اليهود» في القاهرة، وقائمة الضحايا طويلة. فكيف يقال له الإمام، وليس له مبحث واحد في الفقه، وكيف يقال له الشهيد، وهو قتيل في عملية انتقامية؟ ولماذا يستدعى من ماض يتعين أن ينعتق من قبضته الحاضر والمستقبل؟ إنها صورة أخرى من صور الافتتان بالعود الأبدي.
لم يُدع البنا في حياته إماماً، ولو دعاه أنصاره إماماً آنذاك لأثاروا سخرية جيله كله. لكنهم دعوه بالأستاذ، وكان يطمح إلى أستاذية العالم، ويراود أتباعه اليوم هذا الطموح، بدعاوى ستجد ضمن أسسها فلسفة القوة، وفكرة العود الأبدي، وملامح شعور بتفوق إثني، وهذه عناصر طبخة كارثية. فهل آن الأوان لأن يقرأ أتباعه ومنهم كمال الهلباوي، المحاضر في جامعة لندن، فلسفة نيتشه قراءة نقدية متعمقة، وينظروا في علاقتها بما هم فيه، من جهة، وبتاريخ النازية، من جهة أخرى؟

التعليقات